(الحلقة الأولى)
اسند الاب ظهره الى اقرب جدار...بعد ان احس بأن رأسه يكاد ينفجر.. وفتح فما عقدت الدهشه لسانه ..وتوقف الدمع في عينيه فلم يخرج... وصاح في صوت مبحوح يغلب عليه البكاء والحجرشه:
يا الهي.. لا اصدق عيني... مستحيل... غير معقول..؟؟!!!
واخذ الاب يواصل التقليب في الدفتر الذي وجده في خزانه ابنته ( فاطمه) التي رحلت عن هذه الدنيا وفارقتها قبل ايام بعد صراع مرير مع المرض...
انه خط(فاطمه) ولا شك .. فهو يعرف خطها جيدا ولو من بين مئه خط...
واخذ الوالد يقلب الصفحات التي كانت( فاطمه) تكتبها ( كمذكرات شخصيه) لها ... تحكي فيها ما يختلج في داخل نفسها وتنفس بها عما يعتما في صدرها من آهات .. وآلام ومشاعر وخواطر...
ووقع بصره على صفحه مكتوب فيها:
اني اموت كل يوم كمدا... اني اموت كل يوم حسره... اموت وفي قلبي حقد عميق ...
حقد على ابي ... وحقد على امي.... ثم استطردت تروي مأساتها قائله:
نشأت في اسره طيبه.. كنت اكبر اخوتي الذكور ولاناث....
مضت طفولتي عاديه باهته خاليه من لمسات الحنان والعطف التي تتمناها أي طفله من والديها....
ام ابي فمشغول في تجارته ولا اراه الا نادرا ... واما امي فقد كانت مشغوله في اعمال البيت ... والثرثره مع نساء الجيران.. وكثره الخروج الى الاسواق .. وسارت الامور على هذا الحال فتره من الزمن..
وجاءت امي باخوه لي آخرين ..فتوقعت ان الامر ربما يتحسن.. ولكن الوضع ازداد سوءا مع مرور الايام ودخولي في مرحله المراهقه والانوثه الكامله ... والتي تكون الفتاه فيها في امس الحاجه الى من تبثه همومها ومشاعرها وخواطر نفسها ... ولكن ابي وامي كانا في واد... وانا في واد اخر...
اكملت دراستي الثانويه ثم دخلت الجامعه ...
وفي تلكت الاثناء اصيبت امي بمرض عضال الزمها الفراش...فاصبح العبء علي ثقيلا ...عبء تربيه اخواني الصغار... وان اكون اما لهم بدل امهم المريضه الملقاة على الفراش ... وعبء التحصيل الجامعي....
حاولت بقدر استطاعتي ان اتاقلم مع هذا الوضع الجديد... ويعلم الله كم بذلت لاخوتي من حب وحنان وعطف لاعوضهم به .... عن الحرمان الذي عشته في طفولتي ... فانا لا اريد ان تتكرر مأساة الحرمان من الحنان والعطف... التي مرت بي مع احد من اخوتي...
ومضت السنين ... وتخرجت من الجامعه ... وعملت مدرسه في احدى مدارس البنات .. وبعد فتره من مباشرتي لعملي في المدرسه .. انتقلت والدتي الى ربها.. وماتت متاثره بمرضها العضال...
ومضت الايام والشهور بطيئه رتيبه على هذا الحال !! ... وازداد الحمل علي ثقلا وصعوبه .. فانا البنت الكبرى .. وانا المسؤله عن تربيه اخواني الصغار .. وانا المسؤله عن ..... وعن ...... وعن.....
لم يكن احد يقدر انني انسانه لها طاقه ذات حدود...ولست نبعا ابديا للبذل والعطاء والتضحيه...
كنت ككل فتاه ...تحلم بذلك اليوم الجميل الذي تزف فيه الى زوجها لترحل معه الى بيت الزوجيه ليعيشا هناك لوحدهما .. في سعاده ووئام ...
كنت احلم بتاسيس اسره صالحه طيبه.. اجد فيه ما فقدته من حنان وعطف واهتمام في طفولتي البائسه ...كنت احلم بطفلي وبطفلتي اللذين اهدهدهما والاعبهما واضاحكهما.....
لقد عزمت على ان ابثهما سيلا متدفقا من الحنان والعطف والرعايه والتربيه ... وجاءت الساعه التي كنت انتظرها بشوق...
علمت ذات يوم ان رجلا صالحا سياتينا الليله ليخطبني من ابي ..
فرحت بذلك كثيرا ... واخذت احلامي العريضه تتسع .... وآمالي تزداد... فسوف انتقل الى عش الزوجيه لابني بيتا سعيدا واربي اطفالا صالحين....
وبقيت انتظر تلك الساعه الحاسمه بلهفه وتشوق ... وحانت تلك الساعه ... ولكن للاسف ليتها لم تحن!!....
لقد رد ابي الطالب ورفض طلبه ... وقال له:
ليس لدينا الان بنات للزواج..ان (فاطمه)لا يمكن ان تترك اخوتها وتتخلى عن تربيتهم ... وانصرف الخاطب بخفي حنين...
بكيت كثيرا بيني وبين نفسي بسبب هذه الصدمه ... واحسست بخيبة امل كبيره...وازداد استيائي من ابي وكراهيتي له ... لقد كان انانيا لا تهمه الا مصلحته الشخصيه ... ولا يبالي بمصالح او مشاعر الاخرين....
لقد رفض الخاطب لانه يريد ان اكون خادمه في البيت بعد وفاة امي... تطبخ وتكنس وتغسل وتربي الاطفال الصغار وتقوم على شئونهم...
ضاربا عرض الحائط باحاسيسي ومشاعري الملتهبه ... ورغبتي في الزواج..وتكوين اسره وانجاب الاولاد.. مع انه كان بامكانه ان يتزوج امراه اخرى صالحه ... تقوم بهذه المهمه بدلا عني...
ورفض ابي الخاطب لسبب اخر ....
وهو الراتب الذي كنت استلمه من المدرسه... والذي كان ياخذه والدي مني كل شهر .. بدعوى انه سيصرفه في مصروف البيت .... وليته فعل ذلك ...
ولكنه لم يكن ينفق على البيت منه الا القليل .... واما اكثره فقد كان ينفقه في رحلاته مع زملائه وفي الفخفخه والبذخ...
لقد اصبحت بالنسبه لابي ( دجاجه ذهبيه ) ... فانا التي آتيه بالمال ...وانا التي اخدم البيت.... وارعى العيال... وهو لا يتحمل شيئا من المسؤليه البتة... وكنت دائما افكر... واقول لنفسي:
رباه ماذا افعل ؟؟! وانا ارى مستقبل حياتي يتحطم امام عيني؟؟
ولم يكن مفر من الصبر لعل الله ان ياتي بفرج قريب...
رساله
